كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكل مذهب هذه حاله. فإنه جدير بالعاقل المفكر أن يرجع عنه إلى مذهب السلف.
وقد أشار تعالى في سورة الفرقان أن وصف الله بالاستواء صادر عن خبير بالله. وبصفاته عالم بما يليق به وبما لا يليق وذلك في قوله تعالى: {الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش الرحمن فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59].
فتأمل قوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}. بعد قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش الرحمن}. تعلم أن من وصف الرحمن بالاستواء على العرش خبير بالرحمن وبصفاته لا يخفى عليه اللائق من الصفات وغير اللائق.
فالذي نبأنا بأنه استوى على عرشه هو العليم الخبير الذي هو الرحمن.
وقد قال تعالى: {ولاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14].
وبذلك تعلم أن من يدعي أن الاستواء يستلزم التشبيه. وأنه غير لائق غير خبير. نعم والله هو غير خبير.
وسنذكر هنا إن شاء الله أن أئمة المتكلمين المشهورين رجعوا كلهم عن تأويل الصفات.
أما كبيرهم الذي هو أفضل المتكلمين المنتسبين غلى أبي الحسن الأشعري. وهو القاضي محمد بن الطيب المعروف بأبي بكر الباقلأني. فإنه كان يؤمن بالصفات على مذهب السلف ويمنع تأويلها منعًا باتًا. ويقول فيها بمثل ما قدمنا عن الأشعري.
وسنذكر لك هنا بعض كلامه.
قال الباقلأني المذكور في كتاب التمهيد ما نصه:
باب في أن لله وجهًا ويدين. فإن قال قائل. فما الحجة في أن لله عز وجل وجهًا ويدين؟ قيل له قوله: {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُوالجلال والإكرام} [الرحمن: 27].
وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} [ص: 75]. فأثبت لنفسه وجهًا ويدين.
فإن قالوا: فما أنكرتم أن يكون المعنى في قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} أنه خلقه بقدرته أوبنعمته. لأن اليد في اللغة قد تكون بمعنى النعمة. وبمعنى القدرة. كما قال: لي عند فلان يد بيضاء. يراد به نعمة.
وكما يقال: هذا الشيء في يد فلان وتحت يد فلان. يراد به انه تحت قدرته وفي ملكه.
ويقال: رجل أيدٌ إذا كان قادرًا.
وكما قال تعالى: {خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس: 71] يريد عملنا بقدرتنا. وقال الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجد ** تلقاها عرابة باليمين

فكذلك قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} يعني بقدرتي أونعمتي.
يقال لهم هذا باطل لأن قوله: {بِيَدَىَّ} يقتضي إثبات يدين هما صفة له.
فلوكان المراد بهما القدرة لوجب أن يكون له قدرتان.
وأنتم لا تزعمون أن للباري سبحانه قدرة واحدة. فكيف يجوز أن تثبتوا له قدرتين؟
وقد أجمع المسلمون من مثبتي الصفات والنافين لها على أنه لا يجوز أن يكون له تعالى قدرتان فبطل ما قلتم.
وكذلك لا يجوز أن يكون الله تعالى خلق آدم بنعمتين. لأن نعم الله تعالى على آدم وعلى غيره لا تحصى.
ولأن القائل لا يجوز أن يقول: رفعت لاشيء بيدي أووضعته بيدي أوتو ليته بيدي وهو يعني نعمته.
وكذلك لا يجوز أن يقال: لي عند فلان يدان يعني نعمتين.
وإنما يقال لي عنده يدان بيضاوان. لأن القول: يد. لا يستعمل إلا في اليد التي هي صفة الذات. ويدل على فساد تأويلهم أيضًا بيدك خلقتني التي هي قدرتك وبنعمتك خلقتني؟
وفي العلم بأن الله تعالى فضل آدم عليه بخلقه بيديه. دليل على فساد ما قالوه.
فإن قال قائل: فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة؟ إذ كنتم لم تعقلوا يد صفة ووجه صفة لا جارحة.
يقال له: لا يجب ذلك كما لا يجب غذا لم نعقل حيًا عالمًا قادرًا غلا جسمًا أن نقضي نحن وأنتم على الله تعالى بذلك.
وكما لا يجب متى كان قائمًا بذاته أن يكون جوهرًا أوجسمًا. لأنا وإياكم لم نجد قائمًا بنفسه في شاهدنا إلا كذلك. اه. محل الغرض منه بلفظه.
وهوصريح في أنه يرى أن صفة الوجه وصفة اليد وصفة العلم والحياة والقدرة كلها من صفات المعاني ولا وجه للفرق بينها وجميع صفات الله مخالفة لجيمع صفات خلقه.
وقال الباقلأني أيضًا في كتاب التمهيد ما نصه:
فإن قالوا: فهل تقولون: إنه في كل مكان؟
قيل: معاذ الله بل هو مستوعلى العرض كما أخبر في كتابه. فقال: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُه} [فاطر: 10] وقال: {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السماء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16].
ولوكان في كل مكان. لكان في جوف الإنسان. وفمه وفي الحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرهان تعالى عن ذلك. ولوجب أن يزيد بزيادة الأماكن إذ خلق منها ما لم يكن خلقه. وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان.
ولصح أن يرغب إليه إلى نحوالأرض وإلى وراء ظهورنا وعن أيماننا وشمائلنا.
وهذا ما قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله. إلى أن قال رحمه الله: ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه عليه كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق ** من غير سيف ودم مهراق

لأن الاستيلاء هو القدرة والقهر. والله تعالى لم يزل قادرًا قاهرًا عزيزًا مقتدرًا.
وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54. يونس: 2] يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن. فيبطل ما قالوه.
فإن قال قائل: ففصلوا لي صفات ذاته من صفات أفعاله. لأعرف ذلك.
قيل له: صفات ذاته هي التي لم يزل ولا يزال موصوفًا بها.
وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان. اه محل الغرض منه بلفظه.
وقد نقلناه من نسخة هي أجود نسخة موجودة لكتاب التمهيد للباقلأني المذكور.
وترى تصريحه فيها بأن صفة الوجه واليد من صفات المعاني كالحياة والعلم والقدرة والإرادة. كما هو قول أبي الحسن الأشعري الذي قدمنا إيضاحه.
واعلم أن إمام الحرمين. أبا المعالي الجويني. كان في زمانه من أعظم أئمة القائلين بالتأويل. وقد قرر التأويل وانتصر له في كتابه الإرشاد.
ولكنه رجع عن ذلك في رسالته العقيدة النظامية فإنه قال فيها:
اختلف مسالك العلماء. في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة. وامتنع على أهل الحق فحواها وإجراؤها على موجب ما تبرزه أفهام أرباب اللسان منها.
فرأى بعضهم تأويلها. التوام هذا المنهج في أي الكتاب وفيما صح من سنن النبي صلى الله عليه وسلم.
وذهب أئمة السلف إلى الأنكفاف عن التأويل وأجراء الظواهر على مواردها. وتفويض معانيها إلى الرب سبحانه.
والذي نرتضيه رأيًا وندين الله به عقدًا. ابتاع سلف الأمة. فالأولى الاتباع وترك الابتداع والدليل السمعي القاطع في ذلك. أن إجماع الأمة حجة متبعة. وهو مستند معظم الشريعة.
وقد درج صحب الرسول صلى الله عليه وسلم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام والمشتغلون بأعباء الشريعة.
وكانوا لا يألون جهدًا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها.
فلوكان تأويل هذه الظواهر مسوغًا أو محتومًا لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة.
فإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك قاطعًا بأنه الوجه المتبع بحق.
فعلى ذي الدين أن يعتقد تنزه الرب تعالى عن صفات المحدثات ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب.
ومما استحسن من إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنه سئل عن قوله تعالى: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5]. فقال: الاستواء معلوم والكيف مجهو ل والسؤال عنه بدعة.
فلتجر آية الاستواء والمجيء وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} [ص: 75]. {ويَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمان: 27]. وقوله: {تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]. وما صح عن الرسول عليه السلام كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا. فهذا بيان ما يجب لله تعالى. اه. كلامه بلفظه من الرسالة النظامية المذكورة مع أن رجوع الجويني فيها إلى أن الحق هو مذهب السلف أمر معلوم.
وكذلك أبو حامد الغزالي. كان في زمانه من أعظم القائلين بالتأويل ثم رجع عن ذلك. وبين أن الحق الذي لا شك فيه هو مذهب السلف.
وقال في كتابه: إلجام العوام عن علم الكلام:
اعلم أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر. هو مذهب السلف أعني الصحابة والتابعين. ثم قال: إن البرهان الكلي على أن الحق في مذهب السلف وحده ينكشف بتسليم أربعة أصو ل مسلمة عند كل عاقل.
ثم بين أن الأول من تلك الأصو ل المذكورة أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أعرف الخلق بصلاح أحوال العباد في دينهم ودنياهم.
الأصل الثاني: أنه بلغ كلما أوحى إليه من صلاح العباد في معادهم ومعاشهم. ولم يكتم منه شيئًا.
الأصل الثالث: أن أعرف الناس بمعاني كلام الله وأحراهم بالوقوف على أسراره هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لازموه وحضروا التنزيل وعرفوا التأويل.
والأصل الرابع: أن الصحابة رضي الله عنهم في طو ل عصرهم إلى آخر أعمارهم ما دعوا الخلق إلى التأويل. ولوكان التأويل من الدين أو علم الدين لأقبلوا عليه ليلًا ونهارًا ودعوا إليه أولادهم وأهلهم.
ثم قال الغزالي: وبهذه الأصو ل الأربعة المسلمة عند كل مسلم نعلم بالقطع أن الحق ما قالوه والصواب ما رأوه. اهـ. باختصار.
ولا شك أن استدلال الغزالي هذا لأن مذهب السلف هو الحق استدلال لا شك في صحته. ووضوح وجه الدليل فيه. وأن التأويل لوكان سائغًا أولازمًا لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. ولقال به أصحابه وتابعوهم كما لا يخفى.
وذكر غير واحد عن الغزالي: أنه رجع في آخر حياته إلى تلاوة كتاب الله وحفظ الأحاديث الصحيحة والاعتراف بأن الحق هو ما في كتاب الله وسنة رسوله.
وذكر بعضهم أنه مات وعلى صدره صحيح البخاري رحمه الله.
واعلم أيضًا أن الخفر الرازي الذي كان في زمانه أعظم أئمة التأويل رجع عن ذلك المذهب إلى مذهب السلف معترفًا بأن طريق الحق هي اتباع القرآن في صفات الله.
وقد قال في ذلك في كتابه: أقسام اللذات.
لقد اختبرت الطرق الكلامية. والمناهج الفلسفية. فلم أجدها تروي غليلًا. ولا تشفي عليلًا. ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5]. {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]. وفي النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ} [الشورى: 11]. {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]. ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. اه.
وقد بين هذا المعنى في أبياته المشهورة التي يقول فيها:
نهاية إقدام العقول عقال ** وغاية سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا ** وحاصل دنيانا أذى وببال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ** سوى أن جمعنا فيه قيل وقال

إلى آخر الأبيات.
وكذلك غالب أكابر الذين كانوا يخوضون في الفلسفة والكلام. فإنه ينتهي بهم أمرهم إلى الحيرة وعدم الثقة بما كانوا يقررون.
وقد ذكر عن الحفيد ابن رشد وهو من أعلم الناس بالفسلفة أنه قال:
ومن الذي قال في الإلهيات شيئًا يعتد به؟
وذكروا عن الشهرستاني أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم. وقد قال في ذلك:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ** وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعًا كف حائر ** على ذقن أوقارعًا سن نادم

وأمثال هذا كثيرة.
فيا أيها المعاصرون المتعصبون لدعوى أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها خبيث لا يليق بالله لاستلزامه التشبيه بصفات الخلق. وأنها يجب نفيها وتأويلها بمعان ما أنزل الله بها من سلطان. ولم يقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه ولا من التابعين.
فمن هو سلفكم في هذه الدعوى الباطلة المخالفة لإجماع السلف؟
إن كنتم تزعمون أن الأشعري يقول مثل قولكم. وأنه سلفكم في ذلك فهو بريء منكم ومن دعواكم.
وهومصرح في كتبه التي صنفها بعد الرجوع عن الاعتزال أن القائلين بالتأويل هم المعتزلة. وهم خصومه وهو خصمهم. كما أوضحنا كلامه في الإباحة والمقالات.
وقد بينا أن أساطين القول بالتأويل قد اعترفوا بأن التأويل لا مستند له. وأن الحق هو اتباع مذهب السلف كما أوضحنا ذلك عن أبي بكر الباقلأني. وأبي المعالي الجويني. وأبي حامد الغزالي. وأبي عبد الله الفخر الرازي. وغيرهم من ذكرنا.
فنوصيكم وأنفسنا بتقوى الله وألا تجادلوا في آيات الله بغير سلطان أتاكم. والله جل وعلا يقول في كتابه:
{إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ في آيات الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فاستعذ بالله إِنَّهُ هو السميع البصير} [غافر: 56].